
” زنجي وسخ” أو ببساطة ” انظري زنجي”
هذه الجملة لـ (فرانز فانون) ، وصفها (هومي بابا)، بأنها سجال يتصف بالعمومية لأن (فانون) لا يتحدث عن تاريخية الانسان بقدر ما يكتب عن زمنية الحداثة التي أُقرّت فيها صورة (الانسان)، إذا نحن ازاء اشكالية كبرى، فهي لم تعد اشكالية ( ثقافية أو عرقية أو دينية) انما هي اشكالية حياتية دفعت الكثير من الباحثين للخوض في غمارها والكشف عن مفاهيمها، ولذلك تحظى هذه الاشكالية في معناها المتشعب وتداخلها المفاهيمي التي تحيل على انماط الحياة والفكر، تحظى بهذا الاهتمام المتزايد، ومن اولها تشعباتها هي مؤشرات (الاختلاف) التي عادة ما تنطلق من حوار (الأنا/ الآخر)، والتركيز على الهوية بوصفها جوهر هذه الاشكالية، ولذلك إذا ما اردنا ان نفهم المعنى الراهن لها نتوقف عند خطابات (ما بعد الكولونيالية)، بوصفها جدلية الضد الثقافي التي رافقت مرحلة (ما بعد الحداثة ) كما ورد في كتاب الدكتور (محمد كريم الساعدي)، الموسوم ( ) إذ تبين لنا من خلاله ان هناك فكرة صراع ثقافات لها جذورها التاريخية ومنطلقاتها الفلسفية التي بررت ظهورها.
في بعض المدونات تم تفسير نظرية (ما بعد الكولونيالية) تفسيرا مرتهنا بفترة تاريخية معينة، اعقبت زوال (الاستعمار)، هذا يعني ان الاستعمار لم يعد يقتنع بجدوى السيطرة العسكرية والسياسية، بل على سيطرة تطال مناحي مهمة كـ (الثقافية والفكرية والحضارية)، ولذلك تعمل هذه النظرية على فضح الايديولوجيا الغربية مع تفكيك مقولاتها المركزية، وبناءً على ذلك تهدف الى تحليل كل ما انتجته الثقافة الغربية، بوصفها خطابا له مقاصده التي تحمل في طياتها الهيمنة والسيطرة، مما يترتب عليهما الاقصاء والتهميش.
لقد رصد (الدكتور محمد الساعدي) موضوعاً مهماً، وهو بيان المنطلق الفلسفي الذي في ضوءه تأسست فاعلية التمييز بين (الشرق والغرب)، ولقد جاء هذا التمييز انطلاقا من أفلاطون وانتهاء عند آخر فلاسفة العقل الغربي، وعلى الرغم من اعتراضنا البسيط الذي يصب في اختصار هذه المنطلقات وعدم الخوض في انساقها الفكرية والمعرفية بشكل مفصل، لذلك لم يعد أمر الوقوف عند حدود التمييز الطبقي أو المجتمعي من قبيل (احرار/ عبيد) أو (اقوام متحضرة/ همجية) الذي درجت عليه الفلسفة اليونانية بوصفها التأسيس الاول لمكونات العقل الغربي، بل اندفعت الى ما هو أهم في تمايزات العقل وحدود الاختلاف.

إذاً الاختلاف الاول، اختلاف بين (عقلين) عقل (تركيبي) يوصف به الشرق، وعقل تحليلي الذي عدّوه جوهر الحضارة الغربية، إذ ترى الفلسفة اليونانية في نماذجها العليا، ان العقل التركيبي ينطلق من (اللغة) في بنائها الانشائي البحت، بمعنى ان هذا العقل يقف عند حدود وصف الاشياء، في حين ان العقل التحليلي على طرف نقيض من ذلك، ومن هنا برزت اختلافات جوهرية بين العقلين اباحت فكرة الاختلاف العرقي مما ترتب عليها الهيمنة والسيطرة والاقصاء، كما ان الاختلاف الديني الذي اشار اليه الباحث لم يقف عند حدود التوصيف الذي يركن الى (المؤمن/ الكافر) بل اندفع الى ما هو أعمق إذ وصف الشرق/ الاسلامي بالعقل (الشهواني) ومن هنا انطلقت السيطرة الغربية بجوهرها (الاستعماري) من العقل حصرا، مما اصبحت الاشكالية الثقافية اشكالية عقلية بامتياز.
فضلا عن الفلسفة والكنيسة كان للاستشراق فاعليته التي لا تقل شئنا عن المنطلقين الاولين، بل تعدى الامر الى تثبيت الهيمنة واقصاء الآخر في النصوص الشعرية والمسرحية وحتى الفنون التشكيلية، ومن هنا لم يعد الشرق بالنسبة للغرب مكان جغرافي، بل مفهوم أو معنى تترتب عليه اشكالية ثقافية وهذا الامر أكده الدكتور محمد الساعدي، وله الفضل في تسليط الضوء عليه من خلال اتخاذ (الخطاب المسرحي)، عينة اجرائية تابع فيها الخطاب المسرحي وكيفية تبنية لهذه الاشكالية.
الكثير من الذين بحثوا في مفهوم (ما بعد الكولونيالية) كونه خطاب اشكالي لا ينطوي على معنى ثابت، بالقدر الذي نلمس تحولات كثيرة فيه سواء على مستوى المعنى أم حدود المفاهيم، و تلك تحولات باعتقادي ابتدأت من (التمايزات العرقية والعقلية)التي خلفت مفاهيم ( لأنا/ الآخر، الهوية، ثم الصدام وبعدها الضد ..الخ) وهكذا استمر التحول، مما يتوجب متابعة هذه التحولات مع بيان اسبابها الفلسفية والتاريخية، ولذلك دفع هذا التداخل والتحول، الدكتور محمد الساعدي ان يضع المفهوم في حدود التوصيف اللغوي ومن ثم الاصطلاحي لينطلق في بيان تلك الاشكالية، فلقد ركز على مصطلحات أو مفاهيم من قبيل (الاشكالية والخطاب بشكل عام ثم خص الخطاب المسرحي الموضوع الرئيس لكتابه، بعدها انتقل الى ما بعد الكولونيالية)، وكنت اتمنى ان يستمر في هذا التحديد للكثير من المفاهيم التي تعد شائكة والتي تم ذكرها آنفا، وعلى الرغم من ذلك وردت اشارات مهمة وإن بدت سريعة ولكنها بالاحاطة في بيان اشكالية المصطلح.
ان الخطاب ما بعد الكولونيالية كمصطلح ما يبرره في مشروع (الباحث)، إذ ينطلق هذا المصطلح بحسب اجماع الباحثين من ” فرضية ان الاستعمار التقليدي قد انتهى وان مرحلة الهيمنة (…) قد حلت وخلفت ظروفا مختلفة تستدعي تحليلا من نوع معين” ولذلك ان الوعي بهذه المرحلة (الما بعد) التي وصفها (هومي بابا) بأنها ” ليس أفقا جديدا، ولا مغادرة للماضي ،ولعل البدايات والخواتيم أن تكون الاساطير التي تمد السنوات البسيطة بأسباب البقاء(…) ليحدثا صور معدة من الاختلاف والهوية، والماضي والحاضر، والداخل والخارج، والاشتمال والاقصاء ” ولذلك اسهمت (الما بعد) اسهاما مباشرا في احداث نقلة فكرية تبلورت في ضوءها جدلية ثقافية تحكمت في الكثير من القضايا ومن أهمها الخطاب المسرحي الذي عاينه الباحث بحسب تراتبيته وتدرجه بدءاً من المسرح العالمي ثم العربي، ومن بعدها المسرح العراقي، ولقد اتخذ من العينات المسرحية (نصوص واخراج) منطلقا اجرائيا بيّن فيه أهمية هذا الخطاب في السعي لاكتساب هويته المحلية ، من خلال نهضة الثقافات المحلية أو القومية لتعرية الخطاب ما بعد الكولونيالي والكشف عن حمولاته المعرفية والثقافية.

لا شك في ان مسألة الهوية هي الأخرى ذات اشكالية مهمة وفي حدود المشهد الثقافي العام، واعتقد كما كان اعتقاد الدكتور محمد الساعدي، ان سطوة الخطاب ما بعد الكولونيالي ما زالت مؤثرة في الكثير من القضايا الثقافية، وان مساءلته تعد جزءاً من مساءلة كبرى تخص خطاب الثقافة المحلية وكيفية الحفاظ على خصائصها، لذلك حاول الباحث بيان تلك الحدود الفاصلة بين وعي الخطابين، وحدود فاعلية كل منهما.
من هنا يمكننا الحديث عن هذا الكتاب (الإشكالية الثقافية : لخطاب ما بعد الكولونيالية، المسرح إنموذجا)، بوصفه مشروعا فكريا تقصى الخيط السري ـ إن صح التوصيف ـ في تفكيك الخطاب الآنف في مغامرة هي بمثابة اختراق مزدوج لخطابين ينطويان على قدر كبير من التصادم والاختلاف، إذن مثل هكذا مشاريع هي في الحقيقة تتابع وتتقصى جدلية (المعنى) التي هي جدلية ثقافية ذات صيرورة متعددة الاوجه ومختلفة المنطلقات، والمحصلة هي رحلة استكشافية تحليلية كنت اتمنى من خلالها وفي بعض مفاصلها كما هو في الفصل الأول، التقليل عن العرضي التاريخي والركون فقط الى تحليل الاشكالية.
لقد ورد في احد مباحث الفصل الاول من كتاب التركيز على رواد هذا الاتجاه، وكان تركيز الكاتب على باحثين لهم فاعليتهم المهمة في خوض الغمار أو تسليط الضوء على نظرية (ما بعد الكولونيالية)، وهؤلاء الباحثون ينتمون الى مناطق متعددة ومشارب فكرية مختلفة، واعتبر هؤلاء الكتاب أن الثقافة الغربية، ثقافة اسطورية مبنية على مبدأ الإخضاع والاستعلاء والهيمنة .. ألخ، ولهذا توقف الباحث الدكتور محمد الساعدي عند اسماء معروفة ولها ثقلها واهميتها من مثل (فانون و ادوارد سعيد وميشيل فوكو وهومي بابا وسبيفاك ) وآخرون، ولقد اخذ المفكر (ادوارد سعيد) مساحة واسعة من البحث مع مقارنة مطولة بينه وبين (ميشيل فوكو)، الغرض منها الكشف عن مرجعيات سعيد الفكرية، واختصر الباحث طروحات (هومي بابا)، وكذلك الناقدة الهندية (جاياتري سبيفاك)، بوصفها أول منظرة نسوية في مرحلة ما بعد الكولونيالية، واعتقد هناك اسماء كثيرة من الضروري متابعتها التي طرحت اشكالية خطاب (الأنا/ الآخر) ومنهم ( محمد عابد الجابري وهشام جعيط ومحمد أركون ) وآخرون، ولا ننسى ما جاء به (سنغور)مثلاً
يمكننا القول ان نظرية (ما بعد الكولونيالية) بوصفها خطابا يترتب عليه اشكالية كبيرة كإشكالية الثقافية، التي هي جزء من منظومة فكرية كبرى، فهي لم تكن وسيلة للتفكير، بل عملا فلسفيا له وظيفته التي تتمثل في التأثير على العالم وصياغته، ولقد رصد الباحث بوعي يحسد عليه مرجعيات تلك النظرية وأطرها المعرفية والفلسفية، ولقد جاء هذا الرصد عن طريق كشف معنى الخطاب وتحولاته، فلقد استثمر الباحث في حدود منهجية الكتاب، منهجين مهمين وهما طروحات النقد الثقافي وما جاء به المنهج التفكيكي، وان هذا الاستثمار بين الاتجاهين الانفين يفتح أفقا في رصد الحقائق وبيان مرجعياتها وتسليط الضوء على مجمل اشكالياتها.